غربة الشعر والأدب

 

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، أما بعد:

من تأمل أحوال طلبة العلم وفتش في قراءتهم واهتماماتهم فإنه سيجد الأدب منزويا عنهم، وسيراه في منأى عن الاهتمام، منضوياً تحت لواء الإهمال والنسيان ولا أعني هنا أدب النفس والخُلق بل أعني أدب الشعر والنثر وما علاقة طلبة العلم بالشعر والأدب؟

ما الأدب عند العرب إلا نتاجا لهذه اللغة العظيمة، كنتاج الشهد من أطايب الزهر والناظر في علم الوحي لابد أن ينظر إليه كما نزل بلسان عربي مبين، ولا يُستطاع ذلك إلا بالتمرس وتقليب النظر في الموروث اللغوي، ولا أعني بذلك حصر فائدة العربية في تقويم اللسان واجتناب اللحن، فهذا فرع من فروعها، وإنما تعلم الأدب والشعر من فائدته لطلبة العلم الشرعي أنه يرفع الذائقة اللغوية لديهم ومن خلاله تُصقل قرائحهم في ابتكار الأفكار وترتيبها في الأذهان، فيجيدوا نحت الصور المنمقة، وصنع المعاني المبتكرة، وينهمر من لسانهم ويراعهم أعذب الألفاظ والمباني ولهذا نجد:

من له حظ من الأدب قد كُسي كلامه بأبهى لباس، وإن قلّت ألفاظه أفاضت بالاستئناس

 

يقول المتنبي:

كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا

وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا

 

فتأمل: كيف صاغ المتنبي معاني عظيمة في هذا البيت العذب بمفردات رائقة صائبة قليلة ؟!

 

قد لا يفهم معنى هذا البيت غالب طلبة العلم اليوم

 

يريد المتنبي أن يقول:

أن الإنسان قد يصل إلى مرحلة تنقلب المفاهيم في ذهنه وتتغير نواميس الكون في نظره فيرى الداءَ دواء ويرى السمَّ شفاء

 

(كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا) الموت الذي هو المصيبة كما سماه الله ﴿فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْت﴾ وتكرهه النفوس كما جاء في صحيح البخاري عن أمنا عائشة رضوان الله عليها: “إنَّا لنكره الموت” تراه دواء وشفاء!!

 

(وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا)

انقلبت عنده الموازين حتى يرى المنايا التي هي المصائب وحوادث الدهر؛ أماني لديه،،،

 

وقفة بوح مما في قلبي:

ما ألحظه هو ما آل إليه الشعر العربي من غربة بين أهل العلم، لاسيما الشعر القديم، فرغم عجمته بين أهل عصرنا اليوم إلا أن من عالجه ولو يسيرا، وفتح بابه واقترب منه سيعقبه ذلك ذوقًا رفيعًا لا يكاد يجده في غيره.

وإذا نظرنا في سيرة أئمتنا نجد أنهم أولوا للعربية والشعر اهتمامًا غير يسير، بل وحثوا ورغبوا في ذلك، كما كان الشافعي يوصي بذلك.[1]

 

 

ولازال أهل العلم يتعلمون الشعر ليوظفوه في استدلالهم وقانون حجاجهم، ويستمطرون منه عذوبة المعاني في استشهادهم واستطرافهم.

 

والمؤلم أنني:

لا أكاد أجد في الحقل العلمي من نقضت عقود الاستعجام عن نقائض جرير والفرزدق!

 

ولا أرى من تتحمس لحماسة أبي تمام، ولم تأتدم بخبز أبي العتاهية[2]، ولم تبحر في بحار البحتري

 

ولم تسمع بالشعراء الصعاليك [3]وتأخذ من مستظرف حِكمهم، ومستطرف أبياتهم

 

ولم تزل الستار عن الأهلين الثلاثة الذين استعاض بهم الشنفري[4] على الناس في لامية العرب

 

لم أجد من تقلب ناظريها في المعلقات العشر، فتنبهر من جزالة ألفاظهم، وقوة تصوراتهم، وعبقريتهم في نحت القوافي والتراكيب

 

ومن لم تقف على ذلك لم تر نجوم الليل بعين امرئ القيس، ولم تنظر إلى دار ميّة بعين النابغة الذبياني، ولم تسأل الأطلال سؤال لبيد بن ربيعة

 

فكم حُرم طلبة العلم من كنوز يفخر بها العرب على سائر أهل الأرض وكم حجبت وسائل اللهو والهواتف والأكاديمية القاتلة الهزيلة بعلومها اليوم من معارف زاخرة، وعلوم فاخرة!

 

فلما خلت الساحة العلمية منهم صرنا نحاكي كتب الأدب، وهم يحاكوننا من سطورهم فاكتفينا ولم نحتج لمن ندارسهم

ولله عاقبة الأمور.

 

 


[1] ينظر: مقالة الشافعي
[2] له قصيدتان ذكر فيها الخبز، هي من أجمل القصائد.
[3] (الشعراءالصعلوك) ‏هذه اللفظة انتشرت عرفًا على أنها نقيصة ‏بمعنى: الشوارعي – المتسكع
 ‏لكن في اللغة تعني: (الرجل الفقير) ‏وفي الحديث: ‏"وأما معاوية فصعلوك، لا مال له". ‏أي: فقير ليس له مال.
 ‏- لبث الأمل: ‏معاوية رضي الله عنه في يومٍ كان يرد إذا خطب وأراد الزواج لفقره ‏ثم صار خليفة المؤمنين، يملك الشام بلاد الخيرات والبركات.
‏- لنا يقينٌ وإيمانٌ: ‏أن هذه الدنيا لا تبقي على حال ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾
[4] وَلِي دُونَكُمْ  أَهْلُـون سِيـدٌ  عَمَلَّـسٌ
 وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأَلُ
هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ  السِّـرِّ  
 ذَائِـعٌ لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْـذَلُ
الثلاثة هم: ذئب خبيث، ونمر أملس، وضبع طويل.
ثلاثة من الوحوش الوحشة، حيث كان الشنفري قد آذن قومه بتركهم والسير في الأرض، حتى استأنس الوحوش وألفها لكثرة قربه منها وبعده عن الناس بعد تضرره منهم.

 

وكتبته

الفقيرة إلى فتح الفتاح

 هيا بنت سلمان الصباح

الكويت حرسها ربي

24 جمادى الثاني 1445

6 يناير 2024

فكرتين عن“غربة الشعر والأدب”

  1. د. علي آل نومة القحطاني

    لا فض فوك دكتورة… هذا هو الوعي المرتقب..!
    ما أحوجنا نحن طلبة العلم إلى استنهاظ هذه الحقيقة وبث روحها بعد اندراسها..!
    نحن في واقع محزن، لغياب اللغة والأدب عن حياة طالب الشريعة؛ بل ربما وصموا من يتعاطاها بأقذع الأوصاف..!
    ما علموا أن أساليب الشرع قد عانقت روح اللغة والأدب فتفجر لنا ينبوع البيان وسر الإعجاز..!
    وما علموا أن سلفنا كانوا يعنون بها؛ فابن عباس يدرس الأدب في المسجد، والشافعي حجة وأمام في اللغة والأدب وعرض عليه الأصمعي أشعار هذيل…
    ما علموا أنه كما يقول الشاطبي: “لو افترضنا مبتدئا في فهم اللغة فهو مبتدئ في فهم الشرع، أو متوسطاً فهو متوسط، أو منتهياً فهو منتهٍ”.
    وابن حزم يقول: “من لم يعرف النحو واللغة فلا يوثق بعلمه ولا يحل له أن يفتي ولا يحل أن يستفتى )ولا تقف ما ليس لك به علم”.
    ويقول ابن السيد النحوي عن ارتباط الفقه باللغة: “فإنَّ الطريقةَ الفقهية مفتقرة إلى علم الأدب، مؤسّسة على أُصُول كلام العرب”.
    والكلام يطول .. ويكفي ما ذكرتم في مقالكم..

  2. د. علي آل نومة القحطاني

    لا فض فوك دكتورة… هذا هو الوعي المرتقب..!
    ما أحوجنا نحن طلبة العلم إلى استنهاظ هذه الحقيقة وبث روحها بعد اندراسها..!
    نحن في واقع محزن، لغياب اللغة والأدب عن حياة طالب الشريعة؛ بل ربما وصموا من يتعاطاها بأقذع الأوصاف..!
    ما علموا أن أساليب الشرع قد عانقت روح اللغة والأدب فتفجر لنا ينبوع البيان وسر الإعجاز..!
    وما علموا أن سلفنا كانوا يعنون بها؛ فابن عباس يدرس الأدب في المسجد، والشافعي حجة وأمام في اللغة والأدب وعرض عليه الأصمعي أشعار هذيل…
    ما علموا أنه كما يقول الشاطبي: “لو افترضنا مبتدئا في فهم اللغة فهو مبتدئ في فهم الشرع، أو متوسطاً فهو متوسط، أو منتهياً فهو منتهٍ”.
    وابن حزم يقول: “من لم يعرف النحو واللغة فلا يوثق بعلمه ولا يحل له أن يفتي ولا يحل أن يستفتى )ولا تقف ما ليس لك به علم”.
    ويقول ابن السيد النحوي عن ارتباط الفقه باللغة: “فإنَّ الطريقةَ الفقهية مفتقرة إلى علم الأدب، مؤسّسة على أُصُول كلام العرب”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل مع الدكتورة