فقد الحبيب

الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

إلى:
من فارقَ العزيزَ، وفقدَ الحبيبَ
نحنُ في هذه الدنيا في مسيرٍ له نهايةٌ، وجسرُ عبورٍ بعده بداية، نعيشُ في هذه الدنيا فتصحبنا أرواحٌ منها القريبُ الذي كالجسدِ، ومنها البعيدُ الذي فارقَنا فأصبح عهدنا معه الدعاءَ والوفاءَ، والودَ ولُقيا الأمل.

وكلَّما كانت أواصرُ من نفارقهُ جامعةً لنا بالدمِّ واللحمِ؛ وطولِ المعشرِ والسكن؛ كان البلاءُ أعظمَ، ووقعه على القلبِ أكبرَ؛ فكان هو بحاجةٍ الى صبرٍ ورضا أَجَل، وللفؤاد أَزهر.

ففقدُ الحبيبِ الذي قَرَّت ْالعيُن بنقائِه
وفقدُ الابنِ الذي من برِّه زانت الحياةُ بصفائِه
وفقدُ الأبِ الذي ألبسَ الدارَ النعيم بحنانِه ووفائه
لم يكن ْبالأمرِ الهينِ وقوعِ جَلَلِ مصابه!

كما قال الشوكاني:

‏‌مصــاب دهى قلبي فأذكى غلائــلي *** وأحمى بسهــــــم الافتجــــــاعِ مقاتــــلي
‏‌وخطبٌ به أعشارُ الحشى صدعت *** فأمست بفرط الوجـــد أي ثواكـــل
‏‌ورزء تقاضـــــاني صفـــاء معيشـتي *** وأنهلني قــــــــــسرًا أمـــــــرَّ المناهـــــل

المصيبةُ
نارٌ في لحظة نوئها، ثم هي في مهبِّ الريح سراب ،،،
المصيبةُ
همٌ اليومِ والليلةِ، ومآلها ذكرى في صدى الزمان كان ،،،
وكما الأيامُ لنا جامعة ٌفهي مفرقةٌ؛ وكما هي مفرقةٌ فهي في المآلِ جامعة!

فالحمدُ للهِ الذي جعلنا مؤمنين بالبعثِ والنشور، ولُقيا الأحبابِ في دارِ الخلود، لمنْ عمل صالحًا وقالَ إنني من المؤمنين.

وقد منَّ اللهُ بكرمهِ علينا منهجًا نسيرُ عليه في الصبرِ والاحتساب، والرضا وحسنِ الظنِّ بعطايا الوهاب، فهذه هي المطيةُ التي لا يضلُّ رُكَابَها.

جاءَ عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه الإمامُ أحمدُ: “جدنا خير عيشنا بالصبر”[1].

وهذه المصائبُ كيرُ العبد الذي يسبكُ فيه حالَه، فإما أنْ يخرجَ ذهبًا أحمرًا، وإما أنْ يخرجَ آسِنًا دَنِسا.

فكما أننا نحمدُ اللهَ ونشكرُه بالنِّعم؛ فالصبرُ خيرُ حمدٍ للهِ في المصابِ والنقم، بل هو أوسعُ العطايا إنْ تمسك بها العبدُ التقي النقي، كما قال النبيُّ : “وَمَا رُزِقَ الْعَبْدُ رِزْقًا أَوْسَعَ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ[2].

وكمالُ الصَّبرِ هي مرتبةُ أولي العزائم، وهي: الصَّبرُ لله وبالله

 مخلصًا الصَّبرَ له، مستعينًا بالله عليه
والصَّبرُ الحقُّ هو ذاكَ الذي يكونُ عندَ الصدمةِ الأولى كما جاءَ ذلكَ بالحديثِ عن النبي ، وذلكَ حين تكونُ نيرانُ الجللِ المصابِ بين جنباتِ الصَّدرِ حاميةً، فيطفئ نيرانَها العبدُ الفقيرُ لله بالصبرِ والاحتسابِ كَأنه يُسقى من ماءٍ عذبٍ فُرات، يُسقى منه حتى ينعمَ بنعيمِ الرضا والرضوان.

فصبرًا، صبرًا، ثم صبرًا صبرًا

فما لنا غيرُ الصبرِ الذي هو جوادٌ لنا لا يكبو، وصارمٌ لا ينبو، وجندٌ لنا لا يُهزم، وحصنٌ حصينٌ لا يُهدم.

نعم ،،، هو ضنٌّ مذاقُه؛ لكنه شهدٌ ثِمارُه.

ولا ننسى من نعمِ الله علينا أنْ جعلَ لنا من الذكرياتِ ما نحيا معها كلما اشتدَّ ألمُ الفراقِ؛ تلكَ الذكرياتُ التي كانت في طيف كان:
هي لا تزالُ على مرأى العينِ، وبين جنبات الصدرِ، وإن اختفى ظلالُها عن دنيا الأنام، شموعٌ من الذكرياتِ اللطافِ غدتْ، بها يضيئُ العمرُ أَنوارهُ.

وَمِن عَجَبٍ أَنّي أَحِنُّ إِلَيهِمُ *** وَأَسأَلُ عَنهُم مَن أَرى وَهُم مَعي

وَتَطلُبُهُم عَيني وَهُم في سَوادِها *** وَيَشتاقُهُم قَلبي وَهُم بَينَ أَضلُعي

 

الكلُّ مبتلى، والكلُّ له مع الأحزانِ والأفراحِ نصيبٌ وموعدا

قُسمتْ الهموم بيننا بالعدلِ والانصاف؛ فلا يخلو من الهمِّ أحد ،،،
فإن فقدتم أحبابكم أمواتًا، فهناك منْ فقدَ الأحباب وهم أحياءً!
يا من ودعتم أحبابكم:
جعلكم ربي من خيرِ ثمارهم اليانعة؛ فما طيب الفروعِ إلا من طيبِ عذوقها، فغذاؤها من عروقها.

فصبرًا لنيلِ عظيم الجزاء، وجزيلِ الثواب، قال النبي :
مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ [3].

قال الإمامُ الشافعي رحمه الله:
فلا يظنُّ أحد ٌأنه يخلص من الألم البتة”[4].

فيعقب ابن تيمية رحمه الله ويقول: “وهذا أصلٌ عظيمٌ ينبغي للعاقل أن يعرفه”[5].

ويزيد على ذلك ابن القيم ويقول: “وإنما يتفاوتُ أهلُ الآلامِ في العقول، فأعقلهم من باعَ ألمًا مستمرًا عظيمًا بألمٍ منقطعٍ يسير، وأشقاهم من باعَ الألمَ المنقطعَ اليسيرَ بالألمِ العظيمِ المستمر”[6].



فلتبكِ العيونُ ولا ضير، وليصبرْ القلب ويرضَ بما عند الله من خير

جاء في الصحيحين:

أن النبي رأى ابنه وهو على فراش الموت؛ فذرفت عيناه بأبي هو وأمي، فاستغرب عبدالرحمن بن عوف تلك الدمعة، فقال له النبي : “ يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ”[7]، ثم أتبعها بأخرى ،،،

 

وإنّ شِفائي عَبرةٌ مهراقَةٌ


فلا تجمدْ عينُك أمامَ ذلك البلاءِ الذي قد لا يطاقُ احتمالُه ولا يسُتطاع تجرعُه، فإنَّ العينَ تضعفُ أنْ تستبقي في محاجرها قطرةً من الدمعِ على ما زاحمَ القلب وداهَمَ الفؤاد.

وكم لهذه الدموع قسط من الشفاء!


فإنَّ نيرانَ الألمِ كثيرًا ما تسكنُ اضطرامها، وتهدأ اعتلاجها بسيلِ العبرات ،،،

فليكنْ الرضا والصبرُ حاديك وبتْ للأمل متشوفًا، ولفرجِ الله متطلعًا، وليكنْ البلاءُ يقينًا زاهرًا وحسنَ ظنٍ بالله مؤنسًا.

فكم ابتلى المرءُ ببلاءٍ عظيمٍ أتبعه الألمُ والشقاءُ، وكان الصبرُ والرضا له دواء، حتى ربما رضي المبتلى فلم يعدْ يشعر بالألم!

﴿فٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ﴾


صبرَ

نوحٌ عليه السلام على قومه سنين
‏وإبراهيـمُ عليه السلام على النارِ
‏وإسماعيلُ عليه السلام على الذبحِ
‏ويـعـقـوبُ عليه السلام على فقدِ الولدِ وذهابِ البصر
‏ويـوسـفُ عليه السلام على البئرِ والسجن
‏وأيــوبُ عليه السلام على الضرِّ
‏ويونسُ عليه السلام على ظلمةِ بطنِ الحوت
‏وموسى عليه السلام على جبروتِ فرعون
‏وزكريـا عليه السلام على عقمِ زوجته
‏وعيسى عليه السلام على المكرِ
‏ومحمـدٌ على صنوف البلاء كلِّه

هؤلاء هم أولي العزمِ والرسلِ .. فكيف بنا نحن ؟!


﴿وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ﴾

جعلكم المولى مَثَلاً وقدوةً لمصابِ غيركم يُحتذى به

 

ختامًا أقول:

أعلم أن الأمر ليس بالهين!


فتَفَرُّقُ البُعـــداءِ بَعـــــدَ مَـــوَدَّةٍ *** صَعبٌ فَكَيفَ تَفَرُّقُ القُرَباءِ

ولكن صبرًا ثم صبًرا {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55]


وإِنَّا للهِ وإِنَّا إِليهِ رَاجِعونْ.

[1] الزهد، (ص: 97).
[2] أخرجه أحمد في مسنده برقم: (11611).
[3] أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (6424).
[4] جامع المسائل، (3/255).
[5] المرجع السابق.
[6] زاد المعاد، (3/13).
[7] أخرجه البخاري في صحيحه برقم: (1303)، ومسلم في صحيحه برقم: (2315).


وكتبته:

الفقيرة إلى فتح الفتاح

 هيا بنت سلمان الصباح

لا توجد أفكار عن “فقد الحبيب”

  1. فاطمة الرشيدي

    سيأتي ما يُفرح قلوبنا بإذن الله ‏ليس عِلماً بالغيب وإنما ثقة برب رحيم كريم ، فلا يعقب الأحزان إلا السعادة، (سيجعل الله بعد عُسر يُسرا) فاللهم اجعلنا من الصابرين الراضين بما قدرته لنا .

  2. جزاك الله خيرا فعلا فقد من تحبين صعب جداً اسال الله ان يجمعنا بهم في جناته تحت ظل عرشه صراحة هناك كلمات تبرد القلوب هي كلماتك اسال الله ان يبارك في علمك وعمرك 🌷🌷

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل مع الدكتورة