بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
من منهج النبي ﷺ في التعامل مع البشر (المداراة)، حتى تظل علاقات البشر في مقام الوسطية السمحاء، فلا تثبت صاعدة فتندم، ولا تستقر هابطة فتخسر!
ويحفظ الانسان حاجته بمداراة من بيده الحاجة، فيحفظ نفسه من هياج الأمواج الثائرة على السفن الزاخرة.
ثبت عنه ﷺ من حديث عروة بن الزبير، أنَّ أمنا عائشة أخبرته أنَّه استأذن على النبي ﷺ رجل، فقال:
“ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول.
فقال ﷺ: أي عائشة، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه”.
ويذكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أنه قال:
“إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإنَّ قلوبنا لتلعنهم”.
ونحن نعيش في أزمنة ومجتمعات تلزمنا أن نتعامل مع بعض البشر بالمداراة؛ فكم شهدنا صنوف المشاهد، وأفانين المناظر، وغرائب المسائل، وعجائب الحكايات!
نداري لنكفي أنفسنا شرهم، ونصد عنا بوائقهم، وإن كانت بين جنبات الصدر لوعة تعتلج، حتى لا تدنو بنا كلمة، وتنأى بنا أخرى، وتجذبنا دمعة وتدفعنا بسمة، قال أبو سليمان الخطابي:
إن تلقكَ الغربة في معشرٍ
قد جُبلَ الطبع على بُغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم
وأرضهم ما دمت في أرضهم
كم من حقدٍ رُسِم على الوجوه، وكم من مقتٍ بانَ في محاجر العيون،،،
وإن كان من الرزايا ما لا يطاق احتماله ولا يستطاع تجرعه، فعلى العاقل اللبيب أن يمسك نفسه، ويداري على كل رزءٍ مهما جل شأنه، وعظم حاله، ويحافظ على حاجته، ويكون مع القوم أصم وإن كان سميعًا، أعمى وإن كان بصيرًا، صامتًا وإن كان قادرًا نطوقًا، حتى لا يكون ممن بنى البناء ليهدمه، وزرع الروض ليحرقه، ونَظَمَ العقد ليبدده.
قال الحسن البصري كما في الآداب الشرعية (3/468):
“كانوا يقولون: المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه”.
شريعة الله جاءت لتسل من القلوب أضغانها وأحقادها، فتأملوا كيف أن الله جلَّ في علاه أمر نبيه موسى عليه السلام أن يخاطب عدوه باللطف واللين، فقال في محكم آياته:
{اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى فَقُولَا لَهُ قَوْلاً ليِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخْشَى}
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره:
“هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين”.
وهناك فرق بين (المداراة) و(المداهنة):
فالمداهنة هي دفع الدين لأجل نيل شيء من الدنيا، كمن تتخفف بالحجاب لأجل عملها ووظيفتها، وكمن يرضى بالاختلاط لأجل راتبه وعلو منصبه.
وأما
المداراة فهي دفع شيء من الدنيا لأجل الحفاظ على حاجة من حاجات الدنيا والآخرة دون أن يتعرض دينه بشيء، كمن يحفظ دينه بمداراة الرافضين له، فيصون جبينه الساطع، وثوبه اللامع من أن يُدنس بعرض من الدنيا.
قال القرطبي رحمه الله في الفرق بينهما:
“أنَّ المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا”.
نسأل الله أن يكفينا شرور الناس وأذاهم، ويحفظنا بحفظه ويرعانا برعايته.
وكتبته الفقيرة إلى فتح الفتاح:
هيا بنت سلمان الصباح
بارك الله فيك دكتورة ،، ذكرتي نقطة مهمة في التعامل نكاد نراها تتلاشى بين الناس ،، الله ينفع فيك ويكثر من امثالك .