رباه قلبٌ تائبٌ ناجاكَ

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

المؤمنُ لا يباشرُ قلبه المعصيةَ إلا والحزنُ يمزقُ قلبه؛ خلافَ اللاهي الذي ليس فقط يتجرأُ على المعصيةِ بل يسعدُ ويفرحُ بها.

فإن صَحَتْ من العبد المحاسبة نزل منزلة التوبة فكان:

باكِيًا مُتَذَلِّلاً، خَائِفًا وَجِلاً

أَسْهرَ الذنبُ لَيْلَهُ، وَأَنْقُضَ مَضْجَعَهُ

تَسَامَرَ بِالْوَحْدَةِ، وتَسَاهرَ مَعَ ظُلْمَةِ اَلْوَحْشَةِ

 

فكانتْ تُرافِقُه:

تلك الدمعةُ التي تَتَرقْرَقُ في عينِ التائبِ كلما رَحَلَ فِكْرُهُ على ما كان عليه من المعاصي، وتراءى له مشهدٌ من مشاهد الماضي

وتلك الصرخةُ التي أحالتْ بين الجفونِ وغفوتها، وأَحْيَتْ الضمائر ورغدتها

ما أعذب الـتَّـوبة ومذاقهـا، وما أجمل العيش في ظلالها

أَخْرَجَتْ الـتـائب من البرحاءِ والحصباءِ إلى دار النعمـاءِ

ولو استطاع أنْ يتحدث عمَّا آل إليه لأبكى العيون دمـاءَ

 

 

ولله تلك الدمعة

ما أثمن وأعظم ثمرتها، قال النبيُّ ﷺ: “عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله”[1].

كل دمع العين للقلب يؤلم؛ إلا دمع التوبة والخشية من الله فإنه يُزْهر

الدمع لله يُحييك … والدمعة لغيره تميتك

فاحفظ غوالي دمع عينيك لله وحده، ومهما عَصَيْتَ يا ابن آدمَ:

لا تستسلم للذنب الذي لا يحذو بكَ إلى الرجاء سبيلًا، ويذهبُ برشدك حتى يجعلك حيرانًا بليدًا

تناسى عمَّا فات، وأَقْبِلْ لما هو آتٍ واعتصمْ بالله، فالاعتصامُ باللهِ منجاةُ التائبين

{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]

إنَّ ذكرى

 الذَّنب لنْ تفارقَ الفكرَ والذهن، فما بلغ الأعداءُ من جاهلٍ ما بلغ الجاهل من نفسه!

إِنِّي بُلِيَـتْ بِأَرْبَــعٍ يَرْمِينَنــِي *** بِالنَّبْـلِ قَدْ نَصَبُـوا عَلَيَّ شِرَاكَا

إِبْلِيسُ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى *** مِنْ أَيْنَ أَرْجُو بَيْنَهُنَّ فِكَاكَا

يَا رَب سَاعِدْنِي بِعَفـْوٍ إِنَّنِي *** أَصْبَحْـتُ لَا أرجو لهنَّ سواكا

سيعتريك

أيامًا تريد الفرار من الذَّنب فَتُسابقُكَ قطرات الدمع حتى ترى الذنب يُسايُركَ أينما غدوت، ويرتسم مواقع أقدامك حيثما حَلَلْتَ، فتَجفَّ جفاف الخشف البالي، فتفتر الإنابة، وَتُوهِنُ الهمة ،،،

والسيل الجارف لن يقف حتى تبني له سدًا ذريعًا منيعًا

تَنْسلخُ من دنيا العاصين، وتنظر لهم نظرةً شَزْراء ولو كانوا لسرك مذياع، وجعلوا حديثَك مشاع

فلا بدَّ من الصدق والإخلاص والثبات؛ فهم حبائل ينصبُها التائب في قلبه حتى يشعر بضوءٍ منيرٍ بين جوانحه، يشعُ نورًا وسرورًا، لا يكدِّره إلا مخافة تَزَعْزُع ِالتوبة وزوالها.

المعاصي تتفاوت

1- المعصية مع الشعور بالألم: وهي كسرة خاصة تحصل للقلب من جميع جهاته، لها شعور خاص لا تقع إلا في قلب المذنب المتألم بمعصيته، وهذا يرجو له أن يرجع ويتوب لأنه كاره للمعصية، ولكن غلبه الهوى في وقت.

2- المعصية مع الإصرار عليها: وهذه دلالة على رضا العاصي وطمأنينته وفرحه بتلك المعصية، فحاله حال الغريق في ظلمات البحر اللُجي.

3- المعصية مع المجاهرة: وهذه علامة الهلاك؛ لأنه أَمِن نظر الله، وقد قال ﷻ ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾

       ولا يزال التائب الصادق خائفًا وجلاً، لا يأمن طرفة عين دام أن الدنيا تصاحبه، حتى يسمع قول الرسل عند قبض روحه:        ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون﴾ جعلنا الله وإياكم منهم.

التائبُ

لا يلطم خدَّه، ولا يشقُّ جيبه، ولا يدعو بدعوى الجاهلية؛ إِنَّما يستر على نفسه وينيب.

قال ابن القيم رحمه الله: “وَشَرَائِطُ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةٌ: النَّدَمُ، وَالْإِقْلَاعُ، وَالِاعْتِذَارُ.

فَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ: هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. 

وَالثَّلَاثَةُ تَجْتَمِعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ، وَيَعْزِمُ”[2].

وكلَّما ازدادَ الخوف من الله جل جلاله كلَّما تَمَزَّقَ القلب على التفريط والتقصير، وشَمَّرَ العبد في المسير.

قال النبي ﷺ: “مَنْ خَافَ أَدْلجَ، وَمَنْ أَدَلجَ بَلَغَ المنزلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غاليةٌ، أَلا إِنَّ سلعةَ اللهِ الجنَّةُ”[3].

ولو بلغتْ ذنوبك عنان السَّماء، فَتبْ إلى الله؛ فإِنَّ الله يحبُّ التوابين.

اللَّهم تَقبلْ منا وَاقبلْنا، وَتُبْ علينا وَارْحَمنْا

[1] أخرجه الترمذي في جامعه برقم: (1639).
[2] مدارج السالكين، (1/199).
[3] أخرجه الترمذي في جامعه برقم: (2654).

 

وكتبته الفقيرة إلى فتح الفتاح

هيا بنت سلمان الصباح

لا توجد أفكار عن “رباه قلبٌ تائبٌ ناجاكَ”

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل مع الدكتورة